
شكلت زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع، إلى موسكو في السادس عشر من أكتوبر الماضي، منعطفاً مهماً في إعادة تشكيل العلاقات السياسية والعسكرية بين روسيا وسوريا. وقد ارتكزت هذه الخطوة على مبادئ واضحة تتمثّل في احترام سيادة سوريا، ودعم استقرارها وإعمارها، وتصحيح أوجه التعاون بين البلدين على أسس متوازنة. وتُمثّل أول زيارة للرئيس السوري إلى روسيا بعد التغيّرات السياسية التي شهدتها العاصمة دمشق.
ولا شك في أن مجريات الزيارة ونتائجها سوف تعيد رسم ملامح هذه العلاقة، ولاسيما بعد تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي أشاد بالعلاقة الاستثنائية والودية التي تربط البلدين لعقود، معبراً عن استعداد بلاده لتعزيز هذا التعاون، وفي خطوة تعكس عمق الشراكة الاستراتيجية بين البلدين.
في إطار هذا السياق، أكدت مصادر مطلعة أن روسيا ستسلم شحنة نفطية كبيرة تبلغ 750 ألف برميل إلى ميناء بانياس السوري خلال الأيام القليلة المقبلة، تنفيذاً لاتفاقية الإمدادات النفطية المبرمة بين البلدين. وأشارت المصادر إلى أن هذه الكمية تمثل جزءًا من التعاون المستمر في مجال الطاقة، مما يعزز أمن الطاقة السوري.
وتأتي هذه الشحنة تأكيداً على الدور المحوري الذي تلعبه روسيا في دعم استقرار سوريا وسيادتها. حيث تشكل جزءاً من الاستراتيجية الروسية الشاملة الرامية إلى تمكين سوريا من تجاوز التحديات الاقتصادية والجيوسياسية التي تواجهها. كما يمثل هذا الدعم المستمر ركيزة أساسية في تعزيز قدرة سوريا على حماية مقدراتها الوطنية ومواجهة الضغوط الدولية المختلفة، مما يعكس عمق الشراكة الاستراتيجية بين البلدين.
ويرى الخبير في الشأن السوري محمد عوض، بأن التحركات الروسية – السورية في خضم التحديات المختلفة التي تواجهها سوريا الجديدة، تؤكد على أن موسكو تعتبر حليفاء مهماً في عملية إعادة الإعمار وبناء الاقتصاد السوري. ويشدد عوض على أن الدعم الروسي المتواصل يمثل سنداً سياسياً للإدارة السورية في مواجهة أي تدخلات خارجية، مستنداً في ذلك إلى موقع روسيا كعضو دائم في مجلس الأمن الدولي – وهو دور تظل دمشق في أمس الحاجة إليه.
وفي هذا الصدد جسد المندوب الروسي في مجلس الأمن فاسيلي نيبينزيا هذا الموقف خلال الجلسة الأخيرة للمجلس، حيث أكد مجدداً على دعم بلاده الثابت للحكومة السورية، داعياً إلى احترام سيادة سوريا وسلامة أراضيها. وأوضح نيبينزيا أن روسيا تواصل وقوفها إلى جانب سوريا كبلد صديق يمر بمرحلة تحول سياسي وتعاف اقتصادي صعبة، مشيراً إلى سعي موسكو الحثيث لدعم جهود إعادة بناء وتطوير مؤسسات الدولة وتعزيز الهوية الوطنية الجامعة لكل السوريين بغض النظر عن انتماءاتهم.
ويؤكد محمد عوض، بأن الحكومة السورية تتبنى خطاباً براغماتياً في تعاملها مع روسيا، انطلاقاً من إدراكها لأهمية استمرار التعاون في المجالات الحيوية مثل الطاقة والقمح والتسليح. كما تستخدم دمشق هذا الانفتاح على موسكو كورقة ضغط في معادلة النفوذ الإقليمي والدولي، بإرسالها رسالة واضحة للغرب بأنها ليست معزولة، وأنها تمتلك بدائل استراتيجية في حال فشلت محاولات تطبيع العلاقات معه.
وتراهن دمشق بشكل خاص على الدور الروسي في وضع حد للعمليات العسكرية الإسرائيلية المتكررة على الأراضي السورية، سواء من خلال عودة دوريات الشرطة العسكرية الروسية إلى مرتفعات الجولان المحتلة، أو بوضع إطار تفاوضي لانسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي التي احتلتها. ويأتي هذا الرهان في ظل فشل المساعي السابقة لدى الدول الغربية للضغط على إسرائيل لوقف اعتداءاتها، مما يعزز الحاجة إلى الوساطة الروسية كخيار استراتيجي.
تُدرك سوريا جيداً أن روسيا تمتلك خبرة عميقة بالملف السوري وعلاقات متشابكة مع مختلف الأطراف، بدءاً من قوات سوريا الديموقراطية “قسد” في الشمال الشرقي إلى المكونات المحلية في الساحل والجنوب، مما يمنحها ميزة فريدة في أداء دور الوسيط في النزاعات الداخلية والإسهام في تعزيز استقرار البلاد.
وفي هذا الإطار، حرصت دمشق على التأكيد على اهتمامها بالحفاظ على الوجود العسكري الروسي عبر القاعدتين الاستراتيجيتين: حميميم الجوية في اللاذقية وطرطوس البحرية. حيث صرّح مسؤول سوري بأن “بلاده تُعطي أولوية للحفاظ على قواعدنا العسكرية هناك، وكما أكد رئيسنا مراراً، فإننا نستند في سياساتنا إلى مصالح الجمهورية العربية السورية”، لافتاً إلى أن “هذه القواعد يمكنها في الظروف الراهنة أن تؤدي أدواراً تتجاوز مجرد كونها مواقع عسكرية”.
وبحسب الخبراء فإن هذا التوجه يُجسّد نموذجاً جديداً للشراكة يقوم على توازن بين متطلبات استقرار سوريا والحاجة الروسية البراغماتية للحفاظ على نفوذها إقليمياً في المنطقة. ويرتبط نجاح هذه الشراكة بقدرة الطرفين على تجاوز إرث المرحلة السابقة ووضع مصلحة الشعب السوري واستقرار البلاد في صدارة الأولويات، وهو ما سيكون له انعكاسات إيجابية على استقرار عموم المنطقة.
سيريا ديلي نيوز-د. سعد مناف : باحث و كاتب سياسي






